بينما أنا أنظف الباحة الخلفيةَ لمنزلنا أبصرتُ فردةً يسرى لحذاءٍ عسكريٍ قديمٍ مدفونة في التراب إلا قليلاً فقمتُ بإخراجها، كانت خيوطها مُربطةٌ بإحكام ففتحتها لأجد كيسا بلاستيكا بداخله صورة شابةٍ جميلة في مقتبلِ عمرها و رسالتينِ مهترئتينِ كُتبَ في إحديهما :
'' خطيبتي العزيزة ''
خلال الفترة التِي قضيتهَا كأسير لدى قواتِ العدو تعرضتُ إلى شتَّى أنواعِ التعذيبِ لأجل قضيةٍ ليست بقضيتِي، كنت أحارب لأجل قضية لا تخصني، حاولتُ أن أخبرهم بأنَّ الوطنَ لم يكن له معنى بدونك..
كنت أنتِ قضيتي و لكهنم جلدوا ظهرِي.. صعقونِي بالكهرباء و أجبروني على الشربِ من قناة الصرف.. قطعوا سبابةَ يدي اليمنى بزعمهِم أنها كانت تضغط على الزناد الذي أزهقَ أرواحَ أصدقاءهم في الحرب، كان بإمكانهم قطعُ ما تبقى من أصابع بما أنهم أخذوا مني خاتمَ خطبتنا المنقوشِ عليهِ أول حرفٍ من إسمِكِ، لم أكن لأبالي.. آملُ أن خاتمَك لازال في خنصركِ..
عزلوني في زنزانة إنفرادية تحت الأرض، زنزانةٍ باردةٍ مظلمةٍ أنستني تعدَادَ الأيامِ و الشهور، لم يكن هنالكَ شيء يؤنسُ وِحدتي و يواسيني في مأساتي إلا صورتكِ الوحيدة التي كنتُ أحملهَا معي في الجيب السري تحتَ فراش حذائي، إبتسامتُك كانت بمثَابةِ نورِ السلام في آخر نفق الحربِ.. حربا سلبت مني كُلَّ شيء.. حريتي.. كرامتِي.. كلّ شيء إلا أملي في لقائك يوما ما حينَ ينتهي كل هذا.. لقد كنتِ السبب في بقائي على قيد الحياة..
مُحبُك : جايكوب.
فتحتُ الرسالةَ الثانية بتُؤدة و حذرٍ خشية أن أتلفها و قرأتُ :
'' إنتهتِ الحربُ و ها أنا أتسكعُ في الشارعِ الذي ترعرنا في أزقتهِ سويا، لا شيء تغير.. رائحة أشجارِ الصنوبر التي تحفُّ الطريقَ، الموسيقى الكلاسيكية التي تعلُو من أبواقِ حافلةِ بيعِ المثلجات هناكَ في الزاوية و أصواتُ الأطفال و هم يلعبُونَ في الساحةِ العامةِ المقابلةِ لمنزلكِ الذي لم تغيروا لون طلاء حيطانه بعد كل هذا الوقت ! يا إلهي كل شيءٍ بقيَ على حالهِ إلا أنا.. غيرتني الحرب، فقدت سبابتي و شوَّهت الشظايا وجهي و قُطِّع ظهري من أثر السياط لكني مازلت أحمل قلبًا لا ينبض إلا لكِ..
أود أن أعبر لك عن مدى أسفي لظهورِي المفاجئ بعد 6 سنواتٍ مضت، واقفًا قبالةَ منزلكِ و أحمل بيدي باقة أزهارِ '' توليب '' التي تحبينَ شذاها.. بإمكاني رؤيةُ بطنكِ البارزة على بعد عشرينَ مترًا و أنت تداعبينَ زوجكِ بينما يعتني بالأزهار و تبتسمينَ له كأنني لم أكُن من قبلُ..
تلكَ الإبتسامةُ التي كانت سببًا في بقائي حيا لسِت سنواتٍ على أرضٍ غريبة هي السبب في موتي اليومَ غريبًا على أرضِ الوطن، الأرض التي سأَدفنُـ.. ''
لم أستطع معرفةَ ما جاء في نهاية الرسالة لأن الماءَ تسرب إلى داخل الكيسِ و أتلفَ بقيتهَا، ما أثار في نفسي فضولاً كبيرًا جعل رسالة الجندي شغلي الشاغلُ فبحثت في الباحةِ لعدةِ أيام على أملِ أن أجد شيئا و لكنني لم أفعَل، قرأت الرسالتينِ مرات عديدة و حدقتُّ مطولاً إلى صورةِ تلكَ الفتاةِ في كل مرة كنت أخلدُ فيها إلى الفراش..
لطالما كفرتُ بالصُدفِ و آمنتُ بأن كل شيء يحدثُ لسببٍ معين و لا بد من أن يكونَ لهذا سبب..
في بادىء ذي أمر أسررتُ الأمر في نفسي و لكنه أصبحَ هاجسا يؤرقني و عبئا يُثقِلُ كاهلي..
شعرتُ و كأنني مُكلف بإيصال رسالةِ الجندي " جايكوب " إلى حبيبتُه..
فقررتُ إخبارَ عائلتي لعلهم يقدمون لي يدَ العونِ..
كان ذلك بعدَ سبعة عشر يومًا من إيجادِ الرسالة، بينما كنتُ أتناول العشاء رُفقة والديَّ و جدتي و إخوتي الصغار، قلتُ :
" منذ ما يزيدُ عن أسبوعينِ حدثَ لي أمر غريب.. وجدتُـ.. "
فقاطعتني أمي قائلةً : '' مرر الحساءَ لجدتك ! ''
مدت جدتي يدهَا لتحملَ الصحن فرأيت خاتمًا بيدها نُقشَ عليهِ حرفُ '' ج '' باللاتينية !! نظرتُ في عينيها فإبتسمت.. إلهي ! نفس الفتاة في الصورة !
" ماذا كنتَ ستقولُ قبل هذا يا بني ؟ '' قالت..
فقلتُ : " لا شيء جدتي، أردتُ فقط أن أقول بأنَّ أحد أصدقائي هناكَ يريدُكِ أن تعلمي بأنه يُحبك.. ''
فأدارت الحلقة في خنصرهَا مرتينِ بإبهَامهَا ثم إبتسمت مجددا..