■■ رحم الله الكابتن محمود الجوهري اسطورة وأيقونة وعلاَمة الكرة المصرية والعربية ، الذي إنتقل إلى رحمة الله أمس الموافق الثالث من سبتمبر لعام 2012 في العاصمة الأردنية عمان ، بعد جلطة دماغية حادة ، فقد بعدها الوعي ودخل في غيبوبة منذ يوم الجمعة الماضي، ولم يستطع مخه المفعم بالنشاط والأمل والحيوية وقلبه المتحمس لكرة القدم أن يقاوم هذه الأزمة الصحية المفاجئة ، فأسلم الروح عن عمر يناهز 74 عاماً ، قضى معظمها راهباً في محراب اللعبة الشعبية الأولى، ووصل أعلى مراتبها ، لاعباً كبيراً ، ومدرباً فذاً ، ومحللاً رائعاً ، ومخططاً استراتيجياً من الدرجة الأولى، وكان في كل ذلك نجماً شعبياً وخبيراً ،أحبه الناس في كل مكان ذهب إليه ، لتفانيه وإخلاصه الشديد في عمله.
■■ وصل الجوهري في نجاحاته للقمة على كافة المستويات المحلية والعربية والقارية والعالمية، ولم ينج من الإخفاقات التي تعتبر أمراً طبيعيا في عالم الساحرة المستديرة ، ولكن نجاحات الجوهري أكبر بكثير جداً من إخفاقاته .. ويكفيه أنه المصري والعربي الوحيد الذي نال لقب كأس الامم الافريقية لاعباً ومدرباً مع منتخب بلاده، وأنه المدرب المصري الوحيد الذي تأهل بمنتخب مصر إلى نهائيات كأس العالم وكان ذلك عام 1990 بإيطاليا، بعد غياب طويل جداً دام 56 عاماً، ومن بعده تواصل الغياب لمدة 22 عاماً ولا ندري متي تنقطع هذه الغيبة!
والجوهري هو الوحيد الذي جمع بين النقيضين في مصر بتدريب الأهلي والزمالك ، وحقق معهما العديد من الالقاب المحلية والافريقية ، وكعادة الناجحين في كرة القدم، تتعدد المهام والرحلات ، فكان الجوهري سفيراً ورحالة ، وتولى تدريب العديد من الاندية والمنتخبات في العديد من الدول العربية وخاصة في السعودية والامارات وعُمان والاردن حيث كانت وظيفته الأخيرة مديراً فنياً ومستشاراً للاتحاد الاردني لكرة القدم ، ونال تصنيفاً عالمياً بين كبار المدربين وترشح للتدريب في أكثر من منتخب افريقي بجانب تدريبه منتخبات مصر وعمان والاردن.
■■ لُقب الجوهري بالجنرال ، لإنضباطه وصرامته واستفاد من خلفيته العسكرية كضابط متقاعد في تطوير قدرته على التخطيط والعمل الاستراتيجي ، وكان يدير كافة شؤون أي فريق يتولى أمره ، بخطط دقيقة ومحددة باليوم والساعة ، وإستفاد كثيرا في ذلك من أستاذه المدرب الالماني الكبير د. كرامر، وكان عاشقاً للنجاح ودؤوبا في عمله ، وسبحان الله فقد كانت آخر مهامه متابعة أنشطة مراكز الموهوبين بالعاصمة الاردنية في يوم الجمعة ، فلم يخلد للراحة في يوم عطلة ولم يرسل أحد مساعديه ، بل ذهب بنفسه للمتابعة ، وبعد أن عاد لمنزله بدقائق ، فاجأته آلام الجلطة الدماغية التي تسببت في وفاته .
■■ ورغم التقدير والأوسمة والحب الجارف له في الشارع المصري ، فربما مات الجوهري وفي فمه مرارة من قلة وفاء مسؤولي اتحاد الكرة برئاسة سمير زاهر وتلامذته الذين جاءوا به مديرا فنياً لاتحاد الكرة المصري منذعدة سنوات وقطع فترة عمله بالاردن والتي شهد خلالها أروع تكريم ملكي من الملك عبد الله بن الحسين ، ليكون ختام مشواره الكروي في مصر ليمنح كرتها خلاصة فكره وخبراته الطويلة .. وفي مصر تنمر زاهر والتلامذة أحمد شوبير ومجدي عبد الغني وأيمن يونس وغيرهم من القامات التي لا يمكن أبداً مقارنتها بالجوهري ، ولم يستحوا من هذه القيمة والقامة ، فرفضوا خططه لتطوير الكرة المصرية وخاصة عندما إقترح إقامة دوري للشباب تحت 23 سنة ، وكان ذلك أمراً شديد الإحباط له ، لإنه كان يعتقد يقيناً، أن المدير الفني لأي إتحاد صاحب القرار في الرؤية الفنية والمشروعات المستقبلية وأن رأيه ينبغي إحترامه من باب الاحترام لتاريخه وقيمته الفنية ، فإضطر للإستقالة حفاظاً على كبرياءه من جحود التلامذة الذين علمهم أصول الكرة، فظنوا أنفسهم أصحاب سلطة عليه وتنمردوا عليه ، لتتحقق المقولة الشهيرة " لا كرامة لنبي في وطنه " ، فيرحل الجوهري من جديد خارج مصر ، حيث عادت الكرة الاردنية لإحتضانه وتكريمه بأرفع المناصب والاحترام برئاسة الامير علي بن الحسين نائب رئيس الفيفا ورئيس الاتحاد الاردني لكرة القدم ، حيث وجد في الاردن ما لم يجده في مصر من الاعتراف بفضله وخبرته وإحترام أراءه.
■■ وقد عرفت الكابتن الجوهري في مطلع حياتي الصحفية ، ومطلع إنطلاقته التدريبية ، في بداية الثمانينات، وكنت شاباً يافعاً ، وأسرني بتواضعه وفيض علمه وخبرته وحماسه وطموحاته، وتبادلنا الحب والاحترام ، وتعلمت منه أصول الاحتراف في المهنة والاخلاص لها ، لإنني شاهدته يعمل بالكرة 24 ساعة ، ولما أخبرته عام 1985 أنني مسافر إلى المانيا " الغربية " في مهمة صحفية ، أوصاني بشراء بعض الفيديوهات الكروية عن المباريات الشهيرة لأبرز الفرق الالمانية .. وقد أتاحت لي الظروف فرصة العمل المشترك مع الجوهري في مجال التحليل الرياضي بقناة إيه أر تي عام 1994 إبان كأس الخليج بالامارات ، وكان المفروض أن أشاركه كمقدم لاستديو التحليل ومشرفاً على الإعداد لكافة التغطيات والبرامج المصاحبة ، ولكنه نجح في إقناع على داود رئيس القناة قاريء نشرات الأخبار والمعلق الكروي الشهير الذي كان قد إعتزل العمل التليفزيوني ، بالعودة من جديد إلى التليفزيون ودخول عالم البرامج الرياضية ، وبالفعل عاد علي دواد ، ليحل محلي في الاستديو ، ولم أغضب من ذلك الأمر ولا على ضياع هذه الفرصة التي كان يمكن أن تغير توجهاتي الإعلامية ، لإنني كنت أؤمن بأنني لن أنال إلا ما قدره المولى سبحانه وتعالى لي ، وإنصهرت مع الجوهري في فريق العمل بصحبة الكثير من النجوم ، ونجحنا جميعا وأبهر الجوهري الجميع بقدرته التحليلية وقراءته سيناريوهات المباريات قبل بدايتها.. وإقتربت منه كثيراً وعلى مدي ساعات الايام والليالي خلال البطولة ، وكان بيننا حوار مفتوح لم يكن للنشر، تحاورت معه في كل شيء سألته عن كل أسراره وأفكاره وقناعاته ولم أنشر أبداً أي تفاصيل عن هذه الحوارات .. تعلمت منه كثيرا من فنون وخبرات وفلسفة كرة القدم ، وشاهدت وفائه لأستاذه الالماني كرامر، وتفانيه الشديد في العمل، ولم أرى منه أي تفاهة او أمور الصغار، وكان في تحليله التليفزيوني واحداَ من أروع من دخلوا ستديوهات التحليل ، ولكنه أبداً لم يحصل على التقدير الكافي لبراعته وقيمته الكبيرة خاصة بعد رحيل علي داود عن القناة.. و الغريب أن الجوهري كان يقول دائما لي أنه معجب بالمدرب التونسي الكبير عبد المجيد الشتالي وكان يعتبره أبرز محلل تليفزيوني في الوطن العربي ، ولعل ذلك يشير إلى قيمة أخلاقية كبيرة في الرجل ، الذي لم أسمعه يتحدث بسوء عن أي شخص سواء زميل منافس او مسؤول أساء إليه ، وكم شاهدته يثني على حسن شحاتة أخطر مدرب صاحب إنجازات جاء بعده مدرباً لمنتخب مصر ، وكذلك العديد من المدربين العرب وآخرهم العراقي عدنان حمد المدير الفني الحالي للمنتخب الاردني.
■■ رحل الجوهري ، ولكن تبقى بصماته وإنجازاته وعطاءه للكرة المصرية والعربية ، نبراساً ومشعلاً لقيمة الإخلاص في العمل وليس فقط كرة القدم ، ولقي الجوهري الكثير من التكريم ، ولكنه لم يجد من ناديه الاصلي " الأهلي" ما يجب وما يستحقه فعلاً ، وربما نفس الشيء من الاتحاد المصري لكرة القدم ، ولعلي أطمع أن يشعر أولئك وهؤلاء بالغيرة ويستحوا من الاحتضان والرعاية والتقدير الرائع الذي حظى به الجوهري من إتحاد الكرة الاردني ، ورجالات الاردن وعلى رأسهم عاهل البلاد الملك عبد الله بن الحسين ورئيس إتحاد الكرة الأمير علي بن الحسين.
■■ وأختم بدعاء للجوهري وكل من لقي وجه ربه " اللهم إغفر له وإرحمه ، اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلا خيراً من أهله ، اللهم لَقِه برحمتك رضاك، ولَقِه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه آمناً إلى جنتك، اللهم باعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقه من الذنوب والخطايا، كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس ، وإغسله بالماء والثلج والبرد .آمين