أحقاد
قصة هوارد غوردن
ترجمة رافع الصفار

في عام 1954، كان يموت كل من يدخل المستشفى من أصدقائي أو عائلتي. بت اعتقد بأن المستشفيات أماكن لاستجلاب الموت، فهي محطات ناقلة بين الإصابات والمقابر. الذين أعرفهم ودخلوا المستشفى بإصابات بسيطة كالرعاف أو النقرس، يتبين فيما بعد أن لديهم أمراض خطيرة تهدد حياتهم كالشلل مثلا أو الأنيميا. الناس من أمثالي غالبا ما يموتون.

بدأت أكره هذه الأماكن التي تتنكر بشكل مؤسسات علاجية. رائحة المعقمات، والهدوء المزيف تثير هلعي. وبالنسبة لي فان الأرض الرخامية لا تعني النظافة اطلاقا، إنما هي تذكرني بدم شخص ما سال هناك وتمت إزالته بعناية فائقة. الممرضات العابسات اللواتي يتنقلن بين الردهات بأرديتهن البيضاء، كأنهن موت أبيض، يذكرنني دوما بالراهبات.

كل هذه الأشياء تعني الموت وأكثر من الموت. كم أكره الأطباء الذين عادة ما يقابلونني بابتسامة كئيبة كما لو أنني أتيت ذنبا فظيعا.

_ لم افعل شيئا.

قلت لأحدهم. كان طويلا صارم القسمات من طراز فرانكشتاين، ورغم انحنائه، بدا أطول من أبي، وسماعة الفحص المتدلية من رقبته تشبه رأس نملة دبت فيها الحياة وهي تتأرجح. ولم أجرؤ على النظر في عينيه. تحدث الطبيب قائلا:

_ كل شيء على ما يرام يا ماركوس. غليسون الآن في مكان أفضل.

يتأرجح رأس الحشرة ويدنو من وجهي.

_ لكني لم أفعل شيئا.
_ نحن نعرف بأنه ليس ذنبك. فالناس يموتون في كل وقت. أرجو أن تهدأ، فكل شيء على ما يرام.

لا، ليس كل شيء على ما يرام. وشعرت بكف أمي على كتفي. لم يكن أحد موضع ثقة آنذاك، خصوصا في مكان مثل المستشفى. وعندما استدرت رأيت أبي يقف عند مدخل غرفة الطواريء، وكأن عينيه تقولان لي: ستموت الليلة. في أفلام الرعب عندما ينظر الأب إلى ابنه بهذه الطريقة، فهو واحد منهم دون شك. أحد تلك المخلوقات الغريبة التي احتلت جسد أحد الوالدين. سمعت الطبيب يقول: 

- مجرد صدمة، لا تقلقوا. وهذا سيمنعه من الإصابة بالهستيريا.

شيء ما يمسك بي. تطوق فكا النملة ذراعي، وتنغرز إبرتها في لحمي كي يبدأ السم عمله. وقبل أن أموت نظرت في عيني أمي الصابرتين. صرخت بها:

_ قلت لك بأن هذا سوف يحدث. لم أكن أريد المجيء إلى هذا المكان.

******

السيدة (بوست ويت) هي معلمتنا للصف الثالث. وهي المرأة التي تعمل دوما على رعايتنا وحمايتنا، وتنقلنا كل أسبوع من ساحة المدرسة إلى الملجأ القائم تحت الكنيسة الميثودوسية. ونحن صامتون، نسير خلف السيدة بوست ويت التي غالبا ما تضغط بإصبعها على شفتيها وهي تبحث بعينيها في السماء الرمادية.

في إحدى المرات، عندما عبرت طائرة صغيرة فوق المدرسة العامة رقم ثلاثة، ثمانية أو تسعة أطفال أصابهم الذعر، وكادت الحافلة المسرعة أن تصدم (غريفي صامويلز). لكن السيدة (بوست ويت) لم تعنفه ولم تلجأ إلى معاقبته. تبسمت في وجهه وقرصته من خده وهو يلتحق بالطابور.

الراهبات من مدرسة العذراء مريم دائما يعبرن الطريق ويلتحقن بنا. عند دخولهن التقاطع، تتوقف جميع السيارات، ربما لأنهن يعرفن الله، وسائقوا السيارات يدركون هذه العلاقة الجليلة. أو ربما بسبب أرديتهن الطويلة التي تكنس الأرض وتمنحهن مظهر ساحرات من دون مكانس. كنا نخاف الراهبات، نخاف من أصواتهن: توخز وتقرع – نخاف منهن لأن وجوههن تلتوي بأشياء شهيرة.

_ ستموتون أولا.

قالت إحدى الراهبات محذرة إيانا في اليوم الأول الذي سرنا فيه سوية إلى الملجأ. أضافت قائلة: 
- عندما يأتون، فإن الشيوعيين سيعرفون من يأخذون أولا.

عندما أطلقت صفارة الإنذار الثانية، أدت الراهبات صلواتهن ورسمن علامة الصليب وتحركن مسرعات مع طلبتهن إلى الخارج. هؤلاء الأطفال الذين يبدون أكثر تنظيما والتزاما ببدلاتهم الزرقاء المنشاة، وبالتعابير العميقة المرتسمة على وجوههم الشبيهة بالابتسامات الملونة المرسومة على وجوه تماثيل الجند الخشبية. هؤلاء الأطفال دائما ما ينظرون إلينا بعيون واسعة متوسلة كأنهم يريدون أن يقولوا لنا بأنهم أيضا واقعون في مصيدة قرارات الآخرين. لكن الراهبات لا ينظرن إلينا، يحنين رؤوسهن ويشحن بنظراتهن بعيدا، كما لو كنا رمزا للشر، ولو حدث وتحدثن الينا، فلكي يصرخن بنا أو يوبخننا، ولكي ينبئننا بقدوم الشيوعيين.

والشيوعيون في كل مكان، يهددون أمريكا من الخارج ومن داخل شواطئنا. وفي الراديو كان هنالك تقرير يقول بأن مجلس الشيوخ يحقق معهم. وعندما يجتمع آباؤنا حول مائدة القمار في أحد بيوت الأصدقاء، غالبا ما يتحدثون عن هذا الخطر الجديد.

وآباؤنا رجال ذوي قامات نحيفة وأذرع مفتولة وأظافر طويلة ترقد تحتها الأوساخ، فهم يعملون في الحقول وفي الحفر وفي المناجم بالمعاول والفؤوس والمساحي. لا يخافون من شيء. لكنهم عندما يتحدثون عن الشيوعيين فهم عادة ما يلجأون إلى الهمس. يلعنون بصوت عال، ويسحقون الذباب بأكفهم الضخمة، ويحرصون على رفع صوت جهاز الراديو حتى لا يتمكن الفضوليون أو ربما رجال السلطة من سماع ما يقولون.

أحد الرواد الدائميين لمائدة القمار، السيد (ميتسويه)، همس بأن الناس قد يرسلون إلى السجن لمجرد الشك بهم. والسيد (ميتسويه) يدير محطة وقود بالقرب من الطريق السريع. ويقول السيد (ميتسويه) بأنه خلال الحرب الكبرى الأخيرة قامت السلطة باعتقاله مع عائلته ووضعه في السجن، لكنه لم يذكر السبب، وكلما احتد الجدال بينهم، يضرب السيد (ميتسويه) الطاولة بكفه ويصرخ:

- أنا أمريكي كأي واحد منكم.

نهبط السلم الحلزوني ونحن صامتون. صامتون بسبب الخوف من القصف الجوي. الخوف من الراهبات. والخوف من النهاية. ينفتح الباب الحديدي الضخم. اليافطة المعلقة عليه والتي تشير الى (ملجأ نووي)، عبارة عن دائرة من شريط أبيض، تطوقه حلقة من الطلاء الأحمر. ونتجمع وسط الغرفة مثل قطيع.

_ والآن أيها الأطفال.

تقول السيدة (بوست ويت) محذرة:

_ لا تتكلموا. الكلام ممنوع مهما حدث. بسرعة إذن إلى أماكنكم.

وفي الحال تختفي حلقتنا ونحن نحشر أجسادنا تحت الطاولات. نشبك أذرعنا حول سيقاننا ونضع رؤوسنا بين ركبنا، ثم نغمض عيوننا. الكلام بل حتى الهمس ممنوع بتاتا. وتتحول الغرفة في لحظات الى دائرة كهربائية من قلوب صغيرة نابضة. نفحات من عطر وعرق تخرج من أجساد الكبار فتحرق خياشيمنا ونحن ننتظر القنبلة.

******

قدمنا فروض الولاء للعلم وصلينا وغنينا برفقة السيدة (بوست ويت). وكانت الصلاة قصيرة وبسيطة:

بارك لنا هذا اليوم يا الله، واحفظنا من شرور الشيوعيين، آمين.

والأغنيات لا تشبه على الإطلاق تلك التي نغنيها في الكنيسة. كلمات غريبة، صعبة الحفظ كتلك التي في النشيد الوطني، يتردد صداها بنشاز في أرجاء الفصل، بينما كنا نضرب الأرض الإسمنتية بأقدامنا تاب تاب تاب...

_ بهدوء الآن.

تنبهنا السيدة (بوست ويت) إلى ذلك.

في الكنيسة كنا نغني:

ليس لي سواك يا ربي
وإذا ما ضللت
فأهدني
إلى طريق الصواب

وكنا نصفق، أو نؤدي أشياء أخرى بأذرعنا وأيدينا. نهزها، نحركها. ونقفز أيضا. نهتز بأجسامنا، ونضرب الأرض بأقدامنا. لكن سلوكا كهذا غير مسموح به في المدرسة، رغم انهم غالبا ما يقولون لنا بأنه لا فرق بين المدرسة والكنيسة.

- المدرسة كنيسة.

تقول لنا السيدة (بوست ويت) وهي تطلب منا الهدوء لأداء صلاتنا اليومية. يرتفع حاجباها النحيفان كي تسكت الهمس، وتضيف قائلة:

- عيون الله تراقبنا حتى ونحن في هذا المكان. المدرسة إذن بيت الله كالكنيسة.

فنلتزم الصمت. كنا دائما نلتزم الصمت.

_ تصرف بأدب، وإلا سوف أبعث بك إلى الخلف. 

تقول محذرة (تومي لانثام).

كانت السيدة (بوست ويت) تمد يدها نحو لوح الكتابة عندما استدارت ورأت (تومي) يسترق النظر تحت ثوب (جيرتا بتسلي). أبدى (تومي) اعتذاره مدعيا بأنه يبحث عن قلمه الذي سقط أرضا، وتطفر الدموع من عينيه، فتربت السيدة (بوست ويست) على كتفيه وتغرز كفها داخل شعره الذهبي.

لا أحد يرغب بالذهاب إلى الصفوف الخلفية، لأننا كنا هناك. الملونون، كما يطلقون علينا. سبعة من الأولاد والبنات ضمن عشرين طالبا في الفصل. غالبا ما يعاقب الأطفال الذين يسيئون التصرف بإرسالهم إلى الصفوف الخلفية من الفصل ليبقوا معنا طوال اليوم. نحن لا نعيرهم انتباها خلال فترة العقوبة، لكن زملاءهم يلجأون إلى استفزازهم بالحركات والأصوات ما لم تتدخل السيدة (بوست ويت). 

وفي كل مرة يرسل فيها (تومي) إلى الخلف، كان ينظر إلينا شزرا ويهمس قائلا:

_ سأنال منكم في الاستراحة.

لم نكن نخافه. كان فتى سمينا منتفخا اعتاد أن يهدد الأولاد الزنوج، لكنه لم يحدث أن تعارك مع احد منا.

خلال الاستراحة، غالبا ما يأتي في مجموعة من أصدقائه كي يراقبونه وهو يتحرش بنا، يشتمنا، يبصق على أحذيتنا، لكنه لا يدنو كثيرا منا كي لا يتعرض للكمة أو رفسة من أحدنا. يقول (تومي) باستفزاز:

- هيا، فليأت أحدكم ويضربني. 

لا أحد منا يجرؤ على ذلك. نحن نعلم بأن خطرا ما سيصيبنا لو بادرنا إلى الدخول في عراك مع الآخرين. آباؤنا حذرونا من هذا الخطر، رغم أنهم لم يتمكنوا أبدا من تحديد ما سيصيبنا بالضبط. السيد (فايتنيني) مدير المدرسة، هو بدوره قام بتحذيرنا.

- لا عراك على الإطلاق.

قال ذلك في أحد الاجتماعات التي تقيمها المدرسة. والسيد (فايتنيني) رجل ضخم الجثة، أصلع الرأس، ذو نظرات متوعدة، وينتشر النمش بكميات هائلة بين طيات جبهته. وجه البق العجوز. كنا نناديه سرا بهذا الاسم، لأنه يبدو لنا وكأنه تعرض لهجوم قطيع من الحشرات الطائرة. والسيد (فايتنيني) لم يقل أبدا (لا عراك بين البيض والملونين)، لكن ذلك ما كان يعنيه بالضبط.

كان مديرنا يدرك تماما كنه ذلك الخطر الغامض. ومثل آبائنا لم يكن صريحا أيضا. كان يفتح فمه كي يبرر كلماته لكنه لا يقول شيئا. الجزء السفلي الأحمر المتهدل من وجهه يجعله يبدو وكأنه مصاب بكرب ما. فكأنه محشور في مكان ضيق لا هواء فيه فانتفخت أوداجه.

ومهما كان نوع الخطر فنحن ندركه. خطر غير مرئي، لكنه واضح.. ويحيط بحلقتنا في الخطوط الخلفية من الفصل. جدار ينهض بيننا وبقية الأطفال، لا يرفع إلا عند منتصف ونهاية اليوم. يتلاشى وينتهي التوتر مع جرس المدرسة. عندما يقرع نهرول راكضين إلى بيوتنا. ونكره فترات الاستراحة. إنها لحظات رعبنا الأكبر.

مرتان في الأسبوع يمنح الأطفال ساعة كي يمرحوا ويلعبوا في باحة المدرسة. تلك الساعة الأبدية تملؤنا حقدا ورعبا أكثر من الراهبات أو الشيوعيين أو حتى القنبلة. والباحة ليست أكثر من قطعة ارض عارية مغطاة بالرمل. وعادة نلهو بقتل الذباب أو مراقبة النمل وهو يبني أوكاره. ونتحدث أيضا. نهمس مثل آبائنا على موائد القمار. ذلك كل ما كنا نفعله خلال فترة الاستراحة.

نقطة التحول جاءت بعد عيد كولومبس. عثر على امرأة مقتلولة في باحة المدرسة خلال عطلة آخر الأسبوع. عائلة (ايما كاثرايت) شاهدت عملية القتل. وقامت (ايما) بنقل التفاصيل إلينا:

- نو _ اووه ! صرخت المرأة.

ألقيت على الأرض وسحلت، لأنها رفضت التخلي عن حقيبتها. المقاومة التي أبدتها المرأة استفزت القاتل فسحبها عبر السور وراح يضربها بقدميه. كان يرفع قدميه إلى مستوى معدته ثم يهبط بحذائه على الجسد المدد على الأرض. انسحقت ذراعاها، فتخلت عن الحقيبة، لكن الرجل لم يتوقف عن ضرب المرأة التي راحت تصرخ طالبة النجاة. ظل الرجل يرفسها بقدميه، فانكسر فكها، وانحرف انفها في وجهها وامتلأت عيناها بالرمال الحارقة.

عندما حاولت المرأة الهرب، دفع بها الرجل نحو سور الباحة. حدث ذلك في لحظة خاطفة. كانت الفتاة تناضل كي تمتلك شيئا من قواها الخائرة، وفمها يحترق بالألم، وإحدى ذراعيها شلت تماما. أمسك بها الرجل، ووجه لها ضربة عنيفة في معدتها. سقطت على الأرض. وضع حذاءه فوق رأسها وراح يطحن وجهها في الرمل. اختنقت المرأة بدمها وأطلقت آخر أنفاسها.

في اليوم التالي لم تكتب الصحف شيئا عن الضحية، رغم أن العناوين المحلية حملت على الصفحة الأولى قصة عن امرأة أخرى تعرضت لاعتداء سرقة في حي آخر. لكنها تمكنت من الهروب بالدخول إلى مستشفى قريب.

وجدنا بعضا من دم المرأة متجمدا على الرمال، لكننا لم نقل شيئا. جلسنا في حلقتنا المعتادة نمضغ قطع الشيكولاته ونتحدث عن أحد أفلام الرعب (Them) الذي كان يعرض في دور السينما. لكننا بقينا متيقظين تجاه (تومي) والراهبات. في حلقتنا تلك يمكننا أن نقضي الساعة ونحن نتحدث عن المستقبل، فلكل واحد منا حلمه ورغبته في عمل شيء ما متميز وجيد يوما ما. كنا جميعا نرغب أن نكون علماء صواريخ. ببساطة لأن علماء الصواريخ يفترض بهم أن يلموا بكل شيء. آباؤنا ومعلمونا غالبا ما يجدون وسيلة لتأكيد ذلك المستوى العالي من الذكاء. ليس من الضروري أن تكون عالم صواريخ كي تكشف عن كذا وكذا. ويعطوننا مثالا لا يعبر حتى عن امتلاك الحد الأدنى للحس البديهي. فنحن قد نختار مهنة مثل التدريس فنجد فيها من السحر ما يعادل أن تصبح (سوبرمان). في الحقيقة نحن لا نعرف معلمين يشبهوننا. لكن علماء الصواريخ قليلون، والذكاء هو المؤشر الوحيد لذلك. المدرسة ذات معنى، ومستقبلنا سيكون له معنى بالتأكيد، وبلدنا بحاجة إلينا.

الاولاد الاخرون يتزحلقون ويتأرجحون. يتقافزون ويرفسون الرمل. يركضون من طرف الساحة حتى السور، فينفرط عقدهم وينطلقون بالصراخ والزعيق والغناء. لكننا لا نتحرك. من أعلى الزلاجة ينادينا تومي:

- ها أنا قادم...مثل القنبلة.

ويهبط متشبثا بحافتي الزلاجة بكلتا يديه. يصرخ أخيرا:

- ووووووووووم !

ولتومي ضحكة غبية تشبه صهيل الخيل، تجعل الناس ينظرون إليه كأنه طفل متخلف عقليا. يستغرق في ضحكته طويلا فيبدو الضيق على وجوه الآخرين، مما يدفعه إلى وضع يده فوق فمه. جلس (تومي) عند أسفل الزلاجة، يرفس الغبار بقدميه، وذراعاه الممتلئتان تتشبثان بحافتي الزلاجة. يرفع نفسه إلى الأعلى ويفتح ذراعيه فيبدو كما لو أنه معلق إلى صليب من الألمنيوم. وينتصب واقفا وينظر إلينا فيركبنا القلق. عندها ينطلق بالضحك ثانية. لكننا لا نتكلم. تظل عيوننا مثبتة في الرمل. قوافل من النمل الأسود تواصل عملها الدءوب، تنقل الطعام وتبني بيوتها في الأرض العشبية. لكنه لم يكن من السهل تجاهل ضحكة (تومي). هي بالتأكيد ضحكته التي استفزت رد فعلنا الجماعي. نهضنا واقفين سبعتنا وتوجهنا نحوه. كان ما يزال يضحك عندما أحطنا به عند أسفل الزلاجة. نظر إلينا وفي عينيه خوف. مثل آبائنا ورؤسائنا لم نكن قادرين على تحديد مشاعرنا. لكننا كنا نشعر بشيء ما. مواجهة من نوع ما. ومهما كانت فهي ضخمة ومبهمة مثل الرمل المنتشر في الساحة.

توقف الجميع عن اللعب. تركوا المصاطب وصناديق الرمل. نزلوا من السلالم. تحول الصخب إلى صمت مطبق. الشيء الوحيد الذي كان يتحرك لوح الأرجوحة الذي هجره أحدهم. سلاسل الأرجوحة التي لم تكن مرئية في الظهيرة المضببة، جعلت اللوح يبدو وكأنه يسبح في الهواء، يعلو ثم يسقط في السكون. تكررت تلك الحركة الكسولة بضع مرات قبل أن يتوقف اللوح نهائيا. شيء ما سيحدث.

صرخت السيدة (بوست ويت):

- يا أولاد !

لم تصرخ من قبل. ربما كانت ترفع صوتها أحيانا عندما تريد أن تلفت انتباه بعض الطلبة. لم نفعل شيئا. أشارت السيدة (بوست ويت) بذراعها وهرولت عبر سلالم المدرسة باتجاه مدخل الساحة. كنا نراها من خلال السور المشبك والذي يشبه المثلثات الصفراء المقلوبة في الملاجئ المضادة للإشعاع الذري في المدينة. اللون الأصفر فوق ارض سوداء. أصفر مثل شعر السيدة بوست ويت المتطاير. كانت مندفعة كالسهم تحت ضوء الشمس كي تصل إلينا.

لم نفهم شيئا حتى سمعنا أزيز محرك الطائرة. نظرنا إلى الأعلى. طائرة صغيرة تسبح في السماء تاركة خلفها خطا من الدخان الأبيض. ثم انطلقت صفارات الإنذار مفاجئة وحادة تثقب الرؤوس. صرخت السيدة (بوست ويست) مرة أخرى:

- إلى الطابور في الحال.

لكننا كنا مذعورين. أحدهم أطق صرخة، وبدأنا نركض، نصدم بعضنا البعض، باحثين عن نهاية السور. إحدى الفتيات قذفت بنفسها داخل نافورة الماء. (تومي لانثام) ارتمى على الأرض وغطى رأسه بذراعيه، غارزا كوعيه في الرمل.

عبر الشارع، إحدى الراهبات صرخت بكلام غير مفهوم. كانت تلوح بذراعيها، ورداؤها يتطاير مثل جناحين من الورق. ساحرة توجه المرور. لكن الوقت قد فات.

ركض (غليسون باركر) إلى الشارع. قبل لحظات كان يقف يجانبنا في الحلقة التي تطوق (تومي لانثام). الفتى الأكثر نحافة في كنيستنا. طار جسده في الهواء مثل كبسولة انفصلت عن صاروخ منطلق، وسقط مثل سمكة ندية معلقة بصنارة صياد، بعد أن صدمته سيارة السيد (فيتنيني).

كانت السيدة (بوست ويت) أول الواصلين اليه وهي في حالة هستيريا. راحت تزعق:

- أين جاسون؟ أين غريفي؟ تومي، اين أنت؟ جيرتا..؟ 

كانت تقبض شعر رأسها بإحدى كفيها، وتحدق في الوجوه. كنا متماسكين. تقدمت إحدى الراهبات. دفعت السيدة (بوست ويت) جانبا، وقرفصت على الارض عند (غليسون). أحاطت رقبة (غليسون) بكفيها. كانت رأسه متهدلة الى الوراء كما لو أنه يبحث لها عن مستقر كي يستغرق في النوم.

ولم نر أكثر من ذلك.

بقي السيد (فيتنيني) في موضعه داخل السيارة. ذراعاه تطوقان المقود، ورأسه الصلعاء تلتصق بجهاز التنبيه. أحاطت الراهبات ب(غليسون). رسمن علامة الصليب، وتمتمن ببضع كلمات للعذراء. حملت الراهبة (غليسون)، وكانت كأنها تهدهده، وربما طبعت قبلة على جبينه. قد يكون (غليسون) تحرك قليلا وتأوه. وربما لم تكن الإصابة خطيرة، رغم أن كفي الراهبة كانتا ملطختين بالدم. 

صوفيا 5 فبراير 2000



رافع الصفار RandaKasisi



كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات