قصة: انطون تشيخوف
ترجمة: رافع الصفار
قروي شاب بحاجبين ورموش بيضاء ووجنتين عريضتين يرتدي فروة ممزقة من جلد الخروف وجزمتين سوداوين ظل ينتظر عند باب المستشفى حتى انتهى الدكتور (زيمستفو) من معاينة مرضاه وغادر في طريقه الى البيت، عندها تحرك القروي الشاب نحوه باستحياء وقال:
- اسمحلي ياسيدي...
- نعم، ماذا تريد؟
مرر الشاب راحة كفه فوق أنفه، ونظر إلى السماء قبل أن يقول:
- ياسيدي...أخي فاسكا الحداد موجود عندكم في عنبر السجناء، و....
- نعم، وماذا؟
- أنا أخو فاسكا كما ترى، فنحن اثنان، هو فاسكا وأنا كيريلا، ولدينا ثلاث أخوات، وفاسكا متزوج وعنده طفل صغير. نحن كثيرون كما ترى ولا أحد يعمل. لقد انقضت سنتان الان ولا أحد يعمل في محل الحدادة. أنا أعمل في المحلج ولا أفهم في الحدادة، وأبي كبير، عاجز ولايقوى على رفع الملعقة الى فمه.
- حسنا، ما الذي تريده مني؟
_ كن رحيما يا سيدي واطلق سراح فاسكا.
نظر الطبيب في وجه كيريلا مستغربا، ومن دون أن يقول شيئا تحرك مبتعدا، لكن القروي الشاب تحرك بخطوات واسعة وجثا أمام الطبيب على ركبتيه. قال متوسلا وهو يرمش بعينيه ويمرر راحة كفه فوق أنفه:
_ أيها السيد الطيب، أظهر شيئا من الرحمة السماوية ودع فاسكا يذهب الى البيت. سوف نتذكرك في صلواتنا الى الأبد. أتوسل اليك ياسيدي أن تطلق سراحه، فأفراد العائلة كلهم يكادون أن يموتوا من الجوع. أمه لم تتوقف عن النحيب والبكاء وذرف الدموع على ولدها ليل نهار، وكذلك زوجته. إن هذا أسوأ من الموت. وأنا ما عدت أحفل بشيء. كن رحيما وأطلق سراحه أيها السيد الطيب.
رد عليه الطبيب غاضبا:
- هل أنت غبي أم مجنون؟ كيف لي أن أطلق سراحه وهو مدان؟
عندها انخرط كيريلا بالبكاء وهو يقول:
- أتوسل اليك، أطلق سراحه.
- أنت غريب الأطوار حقا. بأي حق أفعل هذا؟ هل أنا السجان أم ماذا؟ لقد جلبوه لي كي أعالجه، فأنا لا أملك الحق أن أطلق سراحه كما لا أملك الحق أن أضعك في السجن.
- ولكنهم وضعوه في السجن من دون تهمة واضحة، ولقد قضى عاما هناك قبل المحاكمة، والان لا أحد يقول لماذا هو ملقى خلف القضبان. ربما اختلف الأمر لو كان قتل أحدا، دعنا نقول، أو سرق جيادا.
- هذا محتمل، ولكن ما علاقتي أنا بالموضوع؟
- وضعوه في السجن وهم أنفسهم لايملكون سببا واضحا لذلك. كان مخمورا ولم يكن يعي ما كان يفعل، حتى أنه ضرب أباه وجرح وجهه بغصن شجرة. كما ترى، اثنان من الأصدقاء كانوا بحاجة الى القليل من التبغ التركي وطلبا منه أن يرافقهما لاقتحام دكان الأرميني ليلا من أجل الحصول على التبغ. ولأنه كان مخمورا، الأحمق، رضي أن يذهب معهم. كسروا القفل وعاثوا في المكان فسادا، قلبوا كل شيء رأسا على عقب، فهشموا النوافذ ونثروا الطحين. كانوا سكارى، هذا كل ما يمكن أن يقوله المرء بحقهم. على كل حال حضر الكونستابل أخيرا واقتادهم للمثول أمام القاضي. وبعد عام قضوه في السجن، وقبل اسبوع وبالتحديد يوم الاربعاء قدموا للمحاكمة. وقف جندي مسلح خلفهم، وجاء رجال أقسموا اليمين، وكان فاسكا أقلهم لوما، لكن السادة قرروا بأنه الرأس المدبر. الشابان الآخران أرسلا الى السجن، أما فاسكا فأرسلوه الى سجن عسكري لثلاث سنوات. وهذا من أجل ماذا؟ على المرء أن يكون مسيحيا عندما يصدر حكما ما.
- أقول لك مرة أخرى. أنا لاعلاقة لي بالأمر. اذهب الى السلطات المختصة.
- فعلت ذلك ياسيدي. ذهبت الى المحكمة، وجربت أن أقدم التماسا، لكنهم رفضوا أن يأخذوا الالتماس. قابلت مدير الشرطة، وكذلك القاضي، وكان كل واحد من يقول: "لا علاقة لي بالموضوع"، فمن له علاقة إذن؟ أما هنا في المستشفى فأنت لاتخضع لسلطة أحد. أنت المسؤول الأول والأخير وبإمكانك أن تفعل ما تشاء.
تنهد الطبيب وقال:
- حقا أنت ساذج. طالما أن لجنة المحلفين قد وجدته مذنبا، فلا الحاكم ولا حتى الوزير يستطيع أن يفعل شيئا، فكيف بمدير الشرطة. أنت تطلب المستحيل.
- ومن الذي حكم عليه إذن؟
- السادة أعضاء لجنة المحلفين...
- هؤلاء ليسوا سادة. انهم قرويون مثلنا. أندريه غورييف أحدهم، والاخر... الوشكا هوك.
- واضح أن الكلام معك غير مجد على الاطلاق...
لوح الطبيب بيده وتحرك مسرعا باتجاه باب بيته. كان في نية كيريلا أن يواصل ملاحقته للطبيب، لكن الأخير أغلق الباب بقوة خلفه، فأسقط في يد القروي.
ظل كيريلا واقفا في باحة المستشفى لأكثر من عشر دقائق حاسر الرأس يحدق في بيت الطبيب، بعدها أطلق تنهيدة عميقة وتحرك مبتعدا. راح يردد مع نفسه:
- أين يمكنني أن أذهب؟ كل واحد منهم يقول بأنه لا علاقة له بالموضوع، فمن له علاقة إذن؟ طالما لن تدهن أيديهم فلن يفعلوا لك شيئا. الطبيب قال ذلك، لكنه ظل ينظر الى يدي طول الوقت متوقعا مني أن أعطيه ورقة زرقاء. حسنا، إذا اضطرني الأمر يا أخي فسوف أذهب الى الحاكم.
كان يسير في الطريق على غير هدى يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ويتلفت حوله كالتائه، يبحث عمن ينقذه من ضياعه. الجو لم يكن باردا، والثلج يتكسر هشا تحت قدميه. المدينة البائسة التي حوكم فيها أخوه تمتد عبر التل على بعد نصف ميل. على يمينه يقع السجن بسقفه القرميدي الأحمر، وعند أركانه الأربعة تنتصب أبراج المراقبة، والى اليسار تمتد الغابة التي تغطيها طبقات الثلوج. المكان يغرق في سكون مطلق، وكان هنالك رجل طاعن في السن يرتدي جاكيت نسائي قصير وقبعة كبيرة الحجم، يحث الخطى أمامه، يسعل وهو ينادي على بقرة يقودها باتجاه المدينة.
قال كيريلا:
- نهارك سعيد يا جدي.
بوغت الشيخ بوجود الفتى الى جانبه.
رد قائلا:
- نهارك سعيد...
- هل أنت ذاهب بها الى السوق؟
أجابه الشيخ بتكاسل:
- لا..
- هل أنت من سكان المدينة؟
وكانت تلك بداية الحديث بينهما. أخبره كيريلا عن سبب قدومه الى المستشفى، وعن الكلام الذي دار بينه وبين الطبيب.
قال له الشيخ وهما يدخلان المدينة:
- الطبيب لايعرف شيئا في هذه الأمور، هذا أمر مؤكد. نعم هو متعلم ومثقف، لكن تعليمه ينحصر في معالجة المرضى، أما أن تطلب نصحه، أو دعنا نقول أن يكتب لك التماسا، فهذا ما لايقدر عليه. تقول بأنك ذهبت الى قاضي المحكمة والى مدير الشرطة، وهؤلاء أيضا لن ينفعونك في شيء.
- اين يمكنني أن أذهب اذن؟
- العضو الدائم في مجلس أعيان الريف هو الشخص المسؤول عن شؤون القرويين. اذهب اليه.
- تعني الرجل الموجود في زولوتوفو؟
- تعم، الموجود في زولوتوفو، فهو المسؤول عنك. كل شؤونك ومشاكلك، باعتبارك قرويا، هي من اختصاصه، بل حتى مدير الشرطة نفسه لاسلطة له عليه.
- لكن الطريق طويلة الى زولوتوفو.. ربما أكثر من اثنا عشر ميلا.
_ من يريد شيئا يفعل المستحيل من أجله.
- نعم، أتفق معك في هذا. ولكن هل ابعث له بالتماس أم ماذا؟
- يمكنك أن تتدبر الأمر هناك. إذا أردت أن تقدم التماسا فالموظف المختص سيكتبه لك في لمح البصر.
بعد خمسة أيام، وبينما الطبيب في طريقه الى البيت بعد معاينة مرضاه، فوجئ بكيريلا واقفا في باحة المستشفى. هذه المرة القروي الشاب لم يكن لوحده، بل كان برفقته رجل طاعن في السن، نحيل، شديد الشحوب، يومئ برأسه في ايقاع متواصل كبندول الساعة، ويحرك شفتيه مغمغما.
بادر كيريلا الى القول:
_ جئتك مرة أخرى ياسيدي عسى أن تغمرنا برحمتك. هذه المرة جلبت معي أبي، فكن رحيما واطلق سراح فاسكا. العضو الدائم في مجلس اعيان الريف رفض أن يتكلم معي، وقال لي: اغرب عن وجهي.
قال العجوز بصوت أقرب الى الحشرجة وهو يرفع حاجبيه:
- أيها السيد الطيب، كن رحيما بنا فنحن فقراء ولانستطيع أن ندفع لك، ولكن لو سمحت ياسيدي فإن كيريوشكا أو فاسكا يمكنه أن يدفع لك بالعمل. دعهم يعملون.
قال كيريلا وهو يرفع يده فوق رأسه كأنه يؤدي قسما:
- سندفع لك بالعمل، فدعه يذهب ياسيدي. والنسوة رغم الجوع الذي يوشك أن يفتك بهن لم يتوقفن عن البكاء ليل نهار.
القى القروي الشاب نظرة خاطفة على أبيه، ثم سحبه من كمه، وكلاهما في حركة واحدة خرا راكعين عند قدمي الطبيب، الذي رفع يده في حركة يائسة ومن دون أن ينظر حوله تحرك مسرعا باتجاه الباب.
ترجمة: رافع الصفار
قروي شاب بحاجبين ورموش بيضاء ووجنتين عريضتين يرتدي فروة ممزقة من جلد الخروف وجزمتين سوداوين ظل ينتظر عند باب المستشفى حتى انتهى الدكتور (زيمستفو) من معاينة مرضاه وغادر في طريقه الى البيت، عندها تحرك القروي الشاب نحوه باستحياء وقال:
- اسمحلي ياسيدي...
- نعم، ماذا تريد؟
مرر الشاب راحة كفه فوق أنفه، ونظر إلى السماء قبل أن يقول:
- ياسيدي...أخي فاسكا الحداد موجود عندكم في عنبر السجناء، و....
- نعم، وماذا؟
- أنا أخو فاسكا كما ترى، فنحن اثنان، هو فاسكا وأنا كيريلا، ولدينا ثلاث أخوات، وفاسكا متزوج وعنده طفل صغير. نحن كثيرون كما ترى ولا أحد يعمل. لقد انقضت سنتان الان ولا أحد يعمل في محل الحدادة. أنا أعمل في المحلج ولا أفهم في الحدادة، وأبي كبير، عاجز ولايقوى على رفع الملعقة الى فمه.
- حسنا، ما الذي تريده مني؟
_ كن رحيما يا سيدي واطلق سراح فاسكا.
نظر الطبيب في وجه كيريلا مستغربا، ومن دون أن يقول شيئا تحرك مبتعدا، لكن القروي الشاب تحرك بخطوات واسعة وجثا أمام الطبيب على ركبتيه. قال متوسلا وهو يرمش بعينيه ويمرر راحة كفه فوق أنفه:
_ أيها السيد الطيب، أظهر شيئا من الرحمة السماوية ودع فاسكا يذهب الى البيت. سوف نتذكرك في صلواتنا الى الأبد. أتوسل اليك ياسيدي أن تطلق سراحه، فأفراد العائلة كلهم يكادون أن يموتوا من الجوع. أمه لم تتوقف عن النحيب والبكاء وذرف الدموع على ولدها ليل نهار، وكذلك زوجته. إن هذا أسوأ من الموت. وأنا ما عدت أحفل بشيء. كن رحيما وأطلق سراحه أيها السيد الطيب.
رد عليه الطبيب غاضبا:
- هل أنت غبي أم مجنون؟ كيف لي أن أطلق سراحه وهو مدان؟
عندها انخرط كيريلا بالبكاء وهو يقول:
- أتوسل اليك، أطلق سراحه.
- أنت غريب الأطوار حقا. بأي حق أفعل هذا؟ هل أنا السجان أم ماذا؟ لقد جلبوه لي كي أعالجه، فأنا لا أملك الحق أن أطلق سراحه كما لا أملك الحق أن أضعك في السجن.
- ولكنهم وضعوه في السجن من دون تهمة واضحة، ولقد قضى عاما هناك قبل المحاكمة، والان لا أحد يقول لماذا هو ملقى خلف القضبان. ربما اختلف الأمر لو كان قتل أحدا، دعنا نقول، أو سرق جيادا.
- هذا محتمل، ولكن ما علاقتي أنا بالموضوع؟
- وضعوه في السجن وهم أنفسهم لايملكون سببا واضحا لذلك. كان مخمورا ولم يكن يعي ما كان يفعل، حتى أنه ضرب أباه وجرح وجهه بغصن شجرة. كما ترى، اثنان من الأصدقاء كانوا بحاجة الى القليل من التبغ التركي وطلبا منه أن يرافقهما لاقتحام دكان الأرميني ليلا من أجل الحصول على التبغ. ولأنه كان مخمورا، الأحمق، رضي أن يذهب معهم. كسروا القفل وعاثوا في المكان فسادا، قلبوا كل شيء رأسا على عقب، فهشموا النوافذ ونثروا الطحين. كانوا سكارى، هذا كل ما يمكن أن يقوله المرء بحقهم. على كل حال حضر الكونستابل أخيرا واقتادهم للمثول أمام القاضي. وبعد عام قضوه في السجن، وقبل اسبوع وبالتحديد يوم الاربعاء قدموا للمحاكمة. وقف جندي مسلح خلفهم، وجاء رجال أقسموا اليمين، وكان فاسكا أقلهم لوما، لكن السادة قرروا بأنه الرأس المدبر. الشابان الآخران أرسلا الى السجن، أما فاسكا فأرسلوه الى سجن عسكري لثلاث سنوات. وهذا من أجل ماذا؟ على المرء أن يكون مسيحيا عندما يصدر حكما ما.
- أقول لك مرة أخرى. أنا لاعلاقة لي بالأمر. اذهب الى السلطات المختصة.
- فعلت ذلك ياسيدي. ذهبت الى المحكمة، وجربت أن أقدم التماسا، لكنهم رفضوا أن يأخذوا الالتماس. قابلت مدير الشرطة، وكذلك القاضي، وكان كل واحد من يقول: "لا علاقة لي بالموضوع"، فمن له علاقة إذن؟ أما هنا في المستشفى فأنت لاتخضع لسلطة أحد. أنت المسؤول الأول والأخير وبإمكانك أن تفعل ما تشاء.
تنهد الطبيب وقال:
- حقا أنت ساذج. طالما أن لجنة المحلفين قد وجدته مذنبا، فلا الحاكم ولا حتى الوزير يستطيع أن يفعل شيئا، فكيف بمدير الشرطة. أنت تطلب المستحيل.
- ومن الذي حكم عليه إذن؟
- السادة أعضاء لجنة المحلفين...
- هؤلاء ليسوا سادة. انهم قرويون مثلنا. أندريه غورييف أحدهم، والاخر... الوشكا هوك.
- واضح أن الكلام معك غير مجد على الاطلاق...
لوح الطبيب بيده وتحرك مسرعا باتجاه باب بيته. كان في نية كيريلا أن يواصل ملاحقته للطبيب، لكن الأخير أغلق الباب بقوة خلفه، فأسقط في يد القروي.
ظل كيريلا واقفا في باحة المستشفى لأكثر من عشر دقائق حاسر الرأس يحدق في بيت الطبيب، بعدها أطلق تنهيدة عميقة وتحرك مبتعدا. راح يردد مع نفسه:
- أين يمكنني أن أذهب؟ كل واحد منهم يقول بأنه لا علاقة له بالموضوع، فمن له علاقة إذن؟ طالما لن تدهن أيديهم فلن يفعلوا لك شيئا. الطبيب قال ذلك، لكنه ظل ينظر الى يدي طول الوقت متوقعا مني أن أعطيه ورقة زرقاء. حسنا، إذا اضطرني الأمر يا أخي فسوف أذهب الى الحاكم.
كان يسير في الطريق على غير هدى يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ويتلفت حوله كالتائه، يبحث عمن ينقذه من ضياعه. الجو لم يكن باردا، والثلج يتكسر هشا تحت قدميه. المدينة البائسة التي حوكم فيها أخوه تمتد عبر التل على بعد نصف ميل. على يمينه يقع السجن بسقفه القرميدي الأحمر، وعند أركانه الأربعة تنتصب أبراج المراقبة، والى اليسار تمتد الغابة التي تغطيها طبقات الثلوج. المكان يغرق في سكون مطلق، وكان هنالك رجل طاعن في السن يرتدي جاكيت نسائي قصير وقبعة كبيرة الحجم، يحث الخطى أمامه، يسعل وهو ينادي على بقرة يقودها باتجاه المدينة.
قال كيريلا:
- نهارك سعيد يا جدي.
بوغت الشيخ بوجود الفتى الى جانبه.
رد قائلا:
- نهارك سعيد...
- هل أنت ذاهب بها الى السوق؟
أجابه الشيخ بتكاسل:
- لا..
- هل أنت من سكان المدينة؟
وكانت تلك بداية الحديث بينهما. أخبره كيريلا عن سبب قدومه الى المستشفى، وعن الكلام الذي دار بينه وبين الطبيب.
قال له الشيخ وهما يدخلان المدينة:
- الطبيب لايعرف شيئا في هذه الأمور، هذا أمر مؤكد. نعم هو متعلم ومثقف، لكن تعليمه ينحصر في معالجة المرضى، أما أن تطلب نصحه، أو دعنا نقول أن يكتب لك التماسا، فهذا ما لايقدر عليه. تقول بأنك ذهبت الى قاضي المحكمة والى مدير الشرطة، وهؤلاء أيضا لن ينفعونك في شيء.
- اين يمكنني أن أذهب اذن؟
- العضو الدائم في مجلس أعيان الريف هو الشخص المسؤول عن شؤون القرويين. اذهب اليه.
- تعني الرجل الموجود في زولوتوفو؟
- تعم، الموجود في زولوتوفو، فهو المسؤول عنك. كل شؤونك ومشاكلك، باعتبارك قرويا، هي من اختصاصه، بل حتى مدير الشرطة نفسه لاسلطة له عليه.
- لكن الطريق طويلة الى زولوتوفو.. ربما أكثر من اثنا عشر ميلا.
_ من يريد شيئا يفعل المستحيل من أجله.
- نعم، أتفق معك في هذا. ولكن هل ابعث له بالتماس أم ماذا؟
- يمكنك أن تتدبر الأمر هناك. إذا أردت أن تقدم التماسا فالموظف المختص سيكتبه لك في لمح البصر.
بعد خمسة أيام، وبينما الطبيب في طريقه الى البيت بعد معاينة مرضاه، فوجئ بكيريلا واقفا في باحة المستشفى. هذه المرة القروي الشاب لم يكن لوحده، بل كان برفقته رجل طاعن في السن، نحيل، شديد الشحوب، يومئ برأسه في ايقاع متواصل كبندول الساعة، ويحرك شفتيه مغمغما.
بادر كيريلا الى القول:
_ جئتك مرة أخرى ياسيدي عسى أن تغمرنا برحمتك. هذه المرة جلبت معي أبي، فكن رحيما واطلق سراح فاسكا. العضو الدائم في مجلس اعيان الريف رفض أن يتكلم معي، وقال لي: اغرب عن وجهي.
قال العجوز بصوت أقرب الى الحشرجة وهو يرفع حاجبيه:
- أيها السيد الطيب، كن رحيما بنا فنحن فقراء ولانستطيع أن ندفع لك، ولكن لو سمحت ياسيدي فإن كيريوشكا أو فاسكا يمكنه أن يدفع لك بالعمل. دعهم يعملون.
قال كيريلا وهو يرفع يده فوق رأسه كأنه يؤدي قسما:
- سندفع لك بالعمل، فدعه يذهب ياسيدي. والنسوة رغم الجوع الذي يوشك أن يفتك بهن لم يتوقفن عن البكاء ليل نهار.
القى القروي الشاب نظرة خاطفة على أبيه، ثم سحبه من كمه، وكلاهما في حركة واحدة خرا راكعين عند قدمي الطبيب، الذي رفع يده في حركة يائسة ومن دون أن ينظر حوله تحرك مسرعا باتجاه الباب.